• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

أمتي الطريق من هنا

        إنَّ من بين المسائل، التي لا يتنازع فيها اثنان، الواقع المتردّي الذي تعيشه أمتنا منذ زمنٍ ليس بالقصير، في المجالات: السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعسكرية كافّة، وقد تعالت دعوات الإصلاح وتحسين الأوضاع والنهوض بالعقل المسلم في بقاعٍ شتّى من البلاد الإسلامية، وبمناهج متنوّعة، سعت جميعها إلى تشخيص الداء ومحاولة وصف الدواء.

        فمن الأفكار الإصلاحية ما أصاب أصحابها عين الداء، ونجحوا في وضع اليد على الجرح، ولكنَّ وصفهم للدواء لم يكن ملائمًا لطبيعة المرض، وربما تكون الظروف القائمة غير مسعفة لهم في العلاج، ومنهم من خلط بين الأسباب والنتائج، فلم يُفلح في بلوغ غايته، ولم يجد اعتناءً بأفكاره، فلم يتعدَّ الأمر بلدته، وربّما جماعته.

إلاّ أنَّ بعض حركات الإصلاح في بقاعٍ متعددّة من العالم الإسلامي قد نجحت في تصحيح بعض الأوضاع، سواء بصفةٍ جزئية أو كليّة، إلاّ أنَّ بقاء العلل في بعضها الآخر لم يعطِ للمصحّح فرصة الاستمرار، والذهاب بعيدًأ في الزمان، أو الانتشار في المكان.

وإذا ما فحصنا تلك المناهج، وأمتعنا النظر في عناصرها ومرتكزاتها، وجدناها تنزع نحو الجزئية في المعالجة، أو النظر إلى الكلّي بالتجزئة المرحلية.

وهي مسالك، وإن أثبتت فعاليّتها في إثمار حلولٍ جزئية، أو مؤقّتة لقضايا الأمة، والعوائق التي تعترض طريق ازدهارها، تبقى قاصرة عن تقديم الحلول الكليّة لقضايا الأمّة من أجل نهضة شاملة، ضمن قيمنا ومقوّمات هويتنا الإسلامية.

وإذا أحلنا النظر إلى شريعتنا، وأعلمناه في كليّاتها وجزئيّاتها، على تنوّع تفاصيلها ودقائقها، وجدناها جميعًا متّحدة في تحقيق مقصدٍ واحد هو حفظ نظام الأمّة، ودوام صلاحها وقوّتها، وأن تكون مرهوبة الجانب تحقيقًا لقوله تعالى: )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(، وجديرة بمقام الشهادة على غيرها من الأمم، مصداقًا لقوله تعالى: )لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (، وقد أقام الإسلام هذا المقصود الأعظم على ثلاثة أصول: الدين، العلم، المال ( الاقتصاد). ونبّه الأمّة إلى أنَّ صلاحها وهيبتها مرتبطان بدوام رعاية هذه الأصول جميعها، وأنه إذا تخلَّف واحد منها اختلَّ نظامها، وانخرم صلاحها وضاعت هيبتها.

ولا شكَّ أنَّ هذه الأصول أساس الازدهار والتطوّر والعزّة والسيادة.

وبناءً عليه جاء حرص الشريعة على تأكيد أهمية هذه الأصول في حياة الأمة، وحثّها على السعي في اكتسابها وإقامتها والحفاظ عليها.

وهذا المعنى هو الذي يستنبطه كلُّ ناظرٍ في تصرفات الشريعة ومقاصدها؛ حيث يجدها قد عملت على رعايتها من جانب الوجود، وذلك بتحقيق ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وكذا رعايتها من جانب العدم بدرء الخلل الواقع والمتوقع عنها بتشريع الأحكام الدافعة والرافعة لجميع أنواع الضرر عنها.

ومن خلال هذه المعاني السامية يتبيّن لنا مدى التلازم بين هذه الأصول ووحدة الغاية، التي تجمعها، وهي تحقيق المقصود الأعظم من إخراج هذه الأمّة.

وانسجامًا مع ذلك التلازم والوحدة في الغاية جعلت الشريعة الجزاء المرتّب على عمل من تصدّى لحمايتها وإقامتها واحدًا، وإنّ اختلفت درجاته ومراتبه، وهو الشهادة.

ففي مجال الدين نجد المدافعين عن بلاد الإسلام وبيضة المسلمين ووحدتهم لو قتلوا في سبيل ذلك كانوا شهداء في سيل الله قال تعالى: ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (.

والشيء نفسه بالنسبة للعلم، فالساعي في تحصيله كالمجاهد في سبيل الله، حيث قالr :( من خرج في طلب العلم، فهو في سبيل الله حتى يعود)؛ أي إنّه لو أدركه الموت، وهو في طريق طلب العلم، فهو شهيد. وبهما يُلحق المال هو عصب الحياة، وأسّ الاقتصاد حيث جاء في صحيح البخاري: " أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله r، وقال له: يا رسول الله، إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي، فقال: لا تُعطه مالك، قال: فإن قاتلني، قال: فقاتله، قال: فإن قتلته، قال: فهو في النار، قال فإن قتلني، قال: فأنت شهيد".

وجاء في صحيح البخاري أيضًا: أنَّ رسول الله r قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد"، والذي نخلص إليه من خلال ما سبق أنَّ أيَّ إصلاح لا يراعي هذه الأصول أو بعضها، ولا يتلفّت إليها بالعناية والإقامة، يقصر عن غايته، ويقف دون قصده، ولن تستفيد منه الأمّة إلا باسمه.

وبناء عليه إن رامت الأمّة صلاحها وهيبتها وعزّتها، فلتعلم أنّ الطريق لا يكون إلاّ عبر هذه الأصول الثلاثة.

والله من وراء القصد، وهو الموفق لما فيه الخير والصواب.

 

                                            الدكتور عزالدين بن زغيبة

                                            مجلة آفاق الثقافة والتراث

 

 

 

 

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.