• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

تحقيق المخطوطات بين الناصحين و المتطفلين والتجار المحترفين

تحقيق المخطوطات بين الناصحين و المتطفلين والتجار المحترفين

 إن المقصود بتحقيق المخطوطات إخراجها على الصورة التي أرادها مؤلّفوها. وغاية مثل هذه تقتضي من القائمين بها والساعين إليها غاية الجهد بإمعان النظر والتدقيق في نصوصها، ووجوه ألفاظها، واقتفاء أثر تراكيبها ومعانيها، وتصحيح ما ألحقته يد النسّاخ من التصحيف والتحريف بمبانيها ومفرداتها، واستدراك ما غيّب الزمان والمكان من عباراتها، بل فقراتها، وربّما كان نصيبه بضعًا من أوراقها...

وقد توارد الناس من بلاد شتّى على هذا العمل الشريف؛ لإخراج الكنز المنيف، فسلكوا فيه سبلاً شتّى، تجمعها طرق ثلاث:

الطريقة الأولى: الطبع التصويري ( الأوفست) بشكل مطابق للأصل من غير أيّ معالجة لنصوصها، أو التعليق عليها، أو بيان المصطلحات المستعملة فيها، أو شرح غريب ألفاظها، ولا حتى المقابلة بين نسخها، وإنّما يُكتفى فيها بالمقدمات أو الدراسات المجملة، التي تسبق نص المخطوط، وقد استهوت هذه الطريقة فريقًا من المستشرقين وبعض الجهات المعنية بالتراث، وبخاصة إذا كان المخطوط منسوخًا بخطٍّ واضح وجميل. وممّن جاء عمله على هذا النمط من المؤسّسات ما قام به معهد تاريخ العلوم العربية بفرانكفورت.

الطريقة الثانية: يميل بعض المشتغلين بها إلى تسميتها بالتحرير.

وتعتمد هذه الطريقة على إحياء الكتاب ونشره من خلال نسخة واحدة متقنة، بعد البحث ووقوع الاختيار عليها، إلاّ أنَّه في أحيان أُخرى قد تكون وراء تلك النسخة نسخًا أخرى، تعين على توثيق النصّ، تأكيدًا لمن داخله الريب، أو تكميلاً لما وقع من سقطٍ أو تصحيحًا لما كان له قسط من تحريفات النسّاخ.

ويشترط في المتصدي لهذه الطريقة الخائض في شعابها، أن يكون عالمًا حافظًا متقنًا ذا أهلية وخبرة واسعة بموضوع الكتاب الذي يرغب في إخراجه. بل لا بدّ أن يكون قد سبق له الاشتغال بالتحقيق ,ووعى رسومه المعهودة، بل مراجعة الأعمال المحقّقة.

ومن تخلفت عنه هذه الأوصاف فإنّ سلوكه لهذا الطريق سيكون منه كبير الخطر على سلامة النصوص وضبط مدلولاتها.

وقد وقع سلوك هذه الطريقة في إخراج أمهات كتب العلوم الإسلامية، واللغويّة، وعلم الفلك، والطب، وغيرها، مثل عمل مطبعة بولاق، والمطبعة الميمنية بمصر، ومثيلاتها بتونس والجزائر والمغرب، الذي اشتهرت به مطابع مدينة فاس بطباعتها الحجرية.

وممن يسلك هذه الطريقة الآن لجنة إحياء التراث بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وقد أخرجت بهذه الطريقة كتاب البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي وغيره من الكتب.

وأهم العناصر التي تعتمد عليها هذه الطريقة هي:

  1. اعتماد نسخة مخطوطة يوثق بنصّها بعد البحث والاختيار وفق معايير علمية؛ لتكون النسخة الأصل التي ينشر عنها المخطوط
  2. مراعاة القدر الضروري لفهم النص من استكمال كلمة أو سقط، ولو بالاستعانة من خارج نسخ الكتاب، وذلك بين أقواس معقوفة.
  3. إضافة علامات الترقيم المتعددّة حسب ما يقتضيه النص، مع 4الضبط بالشكل لما يحتاج فهمه وإدراك معانيه إلى الضبط والشكل خروجًا من الالتباس الذي قد يقع مع أمثاله.
  4. العناية بتدقيق كلّ ما يستشهد به من آياتٍ وأحاديث وأسماء كتب وكلمات، حتى يسهل على القارئ قراءتها على الوجه الصحيح وعدم الخلط فيها.
  5. الاهتمام بالعنونة المناسبة لمضمون الرسائل الرئيسة.
  6. مراعاة المقاسم وارتباطها واستدراك ما أهمل منها.
  7. وضع فهرس خاص بأهم موضوعات مسائل الكتاب؛ لتسهيل الرجوع إليها.
  8. كتابة مقدمة تتضمن ترجمة موجزة ووصفًا مجملاً للنسخ المعتمدة.

الطريقة الثالثة: وهي طريقة التحقيق أو الإخراج الفني والعلمي للمخطوط، حيث يتم فيها الاعتناء بوجوه الخدمة الفنيّة والعلمية لنصّ المخطوط.

     وتبدأ هذه العناية بالخطوة الأولى في هذه الطريق. وهي اختيار المخطوط، وبعد استقرار رأي المحقّق على مخطوط معيّن تبدأ مرحلة جمع النسخ الخاصّة بالمخطوط المختار، من خلال تعرّف أماكن وجود نسخها وتوافرها، وله في ذلك طرق شتّى، والحصول عليها، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة دراسة النسخ وترتيبها حسب المعايير المتبعة؛ لكي يحدّد النسخة الأم التي يقوم باعتماد نصّها في التحقيق.

     ثم تأتي بعد ذلك مرحلة المقابلة بين النسخ اعتمادًا على النسخة الأم، وهنا يقوم المحقّق بعملية التلفيق بين النسخ، وإصلاح خطأ المؤلف، وتصويب ما وقع فيه الناسخ من التحريف والتصحيف، وفي كلّ ذلك يجب على المحقق أن يتّهم فهمه قبل اتهام النص.

وتلي هذا كلّه مرحلة عمل المحقّق، ومن أهم عناصرها ما يأتي:

  1. نقل المخطوط من الرسم الإملائي القديم على تعدّد مناهجه إلى الرسم الإملائي الحديث لتيسير تعامل القارئ معه.
  2. وضع العناوين التفصيليّة التي لم يكن المؤلف قد أبرزها ووضحها.
  3. تصحيح النص وإكمال السقط.
  4. ترقيم المسائل والأبواب والأحاديث والأخبار والتراجم.
  5. إثبات الفروق بين النسخ في الحواشي، إذا كان ذلك يستحق الإثبات.
  6. ضبط الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتخريجها.
  7. تخريج أبيات الشعر والأمثال العربية.
  8. التعريف بالأعلام والقبائل والأماكن والمواضع والبلدان.
  9. شرح الألفاظ الغربية والمصطلحات العلميّة.
  10. تخريج النصوص المقتبسة من مظانّها.
  11. الحواشي والتعليقات.
  12. ضبط النص بالشكل ووضع علامات الترقيم المناسبة.
  13. الاستدراكات، وهو مجال يضيفه المحقّق ملحقًا بالكتاب إلى جانب تصوير الأخطاء.
  14. وضع الفهارس العامّة والتفصيليّة؛ لتسهيل العودة للكتاب والاستفادة منه.

والناس في احترام هذه المعايير في التحقيق ثلاثة أقسام:

الأول: الذين قصّروا عن الالتزام بهذه المعايير، وشوّهوا نص المخطوط بعملهم بدل تحقيقه، وأفسدوه بدل إصلاحه ودفنوه بدل إحيائه، وهؤلاء إمّا رجل خائض في غير اختصاصه، ويحمل من هذا العلم بعضًا من قواعده وأصوله، فهو يخبط فيه خبط عشواء، وإمّا رجل عرف من هذا الفن أصوله وفروعه، ومن العلم ما هو مالك زمامه، ولكنّه يلقي بمقاليد التحقيق لتلاميذه وأتباعه، ولا يراجعهم فيما فعلوا أو أفسدوا، ولا يعنيه من ذلك العمل إلا وضع اسمه عليه.

ورجل ليس له من هذا الفن نصيب، ولا يربطه به سبب لا من بعيد ولا من قريب، ولكنه اتخذ للتزوير مطية، وللسطو على جهود غيره واجهة، ولا يهمه شيء، وهذا ما تعمد إليه بعض دور النشر بسرقة أعمال الباحثين، وحذف بعض الأشياء منها، وتضع عليها أسماء مجهولة الأصل والفصل في هذا الميدان، قصد تحقيق مكاسب مالية، لا يعلم قدرها إلا الله.

الثاني: الذين يتحوّل التحقيق على أيديهم إلى تأليف، حيث يوغلون في الشرح والتعليق، وإيراد الخلافات، وسرد الأدلّة، أو الاستطراد في تخريج الأحاديث، وإثقال الحواشي بالإحالات، فربما تمرّ عليك صفحات من الكتاب لا ترى فيها لنصّ المؤلف أثرًا، وإنما كلّها تعليقات على مسألة، أو عبارة، وردت في المخطوط، مما يؤدي إلى الممل في تعامل القرّاء معه.`

الثالث: الذين وضعوا الأمر في نصابه، وأجروه في محلّه فأعطوا للنص قدره. وللفكر مداه، فلم يأخذ الزمام من مؤلفه، وإنما أصلحوا ما فرط من نظم عقده. وأرجعوا ما شرد من أصله. وضبطوا ما خرج عن رسمه وشكله، فبينوا ما عسر على الفهم الإحاطة به.

فهؤلاء هم القدوة والملاذ والمرجع لكلّ محتاج.

والله الموفق لما فيه الخير والصواب.

 

الدكتور عزالدين بن زغيبة

مجلة آفاق الثقافة والتراث

 

  

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.