• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

المستشرقون وتحقيق النصوص العربية

إن ماهية التحقيق، كما بينها كبير المحققين عبد السلام هارون – رحمه الله – هي: بذل عناية خاصة بالمخطوطات؛ حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة. فالكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه، اسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان أقرب ما يكون للصورة التي تركها مؤلفه([1]).

وبناء على ذلك فإن الجهود التي تبذل في كل مخطوط يجب أن تتناول البحث من النواحي الآتية([2]):

  1. تحقيق عنوان الكتاب.
  2. تحقيق اسم المؤلف.
  3. تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه.
  4. تحقيق متن الكتاب؛ حتى يظهر بقدر الإمكان مقاربًا لنصّ المؤلف.

والغاية من تحقيق التراث وإخراج نصوصه هي إحياؤه من سباته العميق، وبعثه للحياة من جديد، وإخراجه للناس على الوجه الذي أراد مؤلفوه أن يكون عليه، دون زيادة أو نقصان، أو تعديل غير مطلوب، لا تقتضيه الأمانة العلمية في التحقيق.

وانطلاقًا مما سبق؛ فإن ما بذله علماء الاستشراق من جهود علمية وفنية في إخراج النصوص العربية من تراثنا العريق لا يجرؤ أحد على إنكارها أو جحودها، بل يرى الأستاذ الدكتور حاتم الضامن – رحمه الله – بأنهم كانوا، بحقّ، أساتذة هذا الجيل في الطرائق العلميّة الجيّدة، التي ساروا عليها في نشر كتب التراث وتيسير الإفادة منها.

إلا أن هؤلاء ينطلقون في تعاملهم مع التراث العربي الإسلامي من منطلقات متقلبة بين الجحود والإنصاف، وقليل منهم المنصفون علميًا في دراستهم ومعالجتهم وتقييمهم لنصوص التراث العربي الإسلامي، ومع هذا الإنصاف وحرصهم البيّن عليه إلا أنهم يقعون في أوهام كبيرة وواضحة، وبخاصة فيما يتعلق بألفاظ اللغة العربية وتراكيبها ودلالاتها ومصطلحاتها علومها وفنونها، والسبب في ذلك بيّن لأنهم لم يأخذوا هذا العلم من أهله العلماء، بل تجرعوه من بطون الكتب وهم يبحثون في لسان ليس بلسانهم ، ويدرسون مادة لم تمتزج بأرواحهم، بل تجافيها مبدًأ ومقصدًا.

لكن ما ميّز عمل المستشرقين في التراث – على وجه العموم – الدقّة العالية في وصف النسخ، حيث لا يتركون شاردة ولا واردة إلا أشاروا إليها، مع الحرص على جمع أكبر عدد ممكن منها، يضاف إلى ذلك غايتهم بوضع الفهارس المساعدة للباحث في الوصول إلى المعلومة التي يبتغيها، مع اهتمام واضح بشكل الطباعة، ولم يكن عمل المستشرقين هذا عملاً ارتجاليًا، بل كان في معظمه عملاً منظمًا مدروسًا ومدعومًا؛ لأنه كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمعاهد والجامعات، فالفضل يعود إليهم في إنشاء كراسيّ للغات الشرقية والأدب العربي، كما في جامعات: لايدن بهولندا، السوربون بفرنسا، وكمبردج وأكسفورد بإنجلترا، وبرلين، وبون، وتوبنجن، وفرانكفورت، ومونستر، وهايدلبرج بألمانيا.

ويضرب لنا الأستاذ الدكتور حاتم الضامن على ذلك مثالاً فيقول: امتازت طبعات المستشرقين بالحرص على جمع النسخ المخطوطة، ووصفها وصفًا جيِّدًا يُظهر القارئَ على مبلغ الثقة بها، أو الشك في صحتها؛ ليكون على بصيرة من أمره، ولم نجد هذه الميزة في شيء مما طُبع بمصر قديمًا، بلغ ما بلغ من الصحة والإتقان، كالطبعات الجيدة النفيسة المتقنة في بولاق.

وأقرب مَثَل لذلك كتاب سيبويه، فقد طُبع بباريس سنة 1299هـ (1881م)، ثم طُبع في سنتي 1316هـ، 1317هـ، ففي طبعة باريس نجد بيانًا في وصف الأصول التي طُبع عنها، وما كُتب عليها من تواريخ وسماعات، ونجد تفصيلاً لاختلاف النسخ في حواشي الكتاب من أوله إلى آخره، ولا نجد في طبعة بولاق حرفًا واحدًا من ذلك كلِّه، ولا إشارة إلى أنّها أُخذت عن طبعة باريس، التي اعتمدت على سبع نسخ مخطوطة.

أما ما جاء به هؤلاء من قواعد وآليات في عمل التحقيق فيما يتعلق بالمقابلة بين النسخ، والتصحيح، وإصلاح الأخطاء، وعلاج السقط والزيادة والتشابه بين قسم من الحروف، وصنع الحواشي، ووضع علامات الترقيم والرموز والاختصارات، وثبت المصادر، فلم يكونوا مبتكرين لجميع عناصر هذا العلم وتفاصيله، بل المستشرقين استفادوا استفادة عظيمة وجليلة مما تركه علماؤنا الأوائل في هذا المجال؛ لأن علماؤنا المتقدمين قد كتبوا في قواعد التحقيق أصولاً نفيسة منها، وبخاصة ما وضعه علماء الحديث من قواعد في مجال تلقي النصوص النبوية، ونقلها، وتصحيحها، وكيفية كتابتها وتدوينها.

وفي المقابل يجب ألا ننكر أن المستشرقين قد استفادوا أيضًأ مما كتبه أسلافهم من قواعد في نشر تراث الآداب اليونانية واللاتينية، وآداب القرون الوسطى، ثم استعانوا بتلك القواعد في نقد المخطوطات العربية والشرقية وإخراجها، مع الاتكاز الكبير على ما وضعه علماء الإسلام في هذا الباب

الدكتور عز الدين بن زغيبة

 مدير التحرير

 

 

 

[1]    عبد السلام هارون: تحقيق النصوص ونشرها، 43. 

[2]    نفس المرجع:43.

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.