• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

الشريعة وحرية التصرفات المالية الإحكام الإلهي  لا التخبط البشري

الشريعة وحرية التصرفات المالية الإحكام الإلهي  لا التخبط البشري

إن من أعظم الأسس التي بني عليها نظام التصرفات المالية: رعايةَ حق التملك، وصيانةَ الأملاك عن كل يد ظالمة تعمد إلى إلغاء هذا الحق, أو الحد منه من دون مسوغ شرعي, ويحصل هذا عندما يختص كل مالك بما يملكه, ويتصرف فيه بوجوه التصرف المختلفة, المعبر عنها بحرية التصرف, وهي أصل طبيعي وشرعي, ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضاً ميتة، فهي له، وليس لعرق ظالم فيها حق", وقال مالك: (والعرق الظالم كل ما احتقر أو أخذ أو غرس بغير حق), وعن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: "من أحيا أرضاً ميتة، فهي له" قال مالك: (وعلى ذلك الأمر عندنا ).

       وهذا إقرار من الشريعة بأن المال حق للذي اكتسبه بطريق من الطرق الصحيحة شرعاً؛ لأن حق الاكتساب للمال يخول المرء حيازته والاستبداد به عن الغير, فلا يباح إلا بإباحته, ويمنع بمنعه, ولا يتصرف في جزء منه إلا بإذنه, فأصبحت له سلطة على ما اكتسبه, صار معها حق الله تابعًا لحقه, قال ابن عبد السلام: (... أما الأموال فحق الله تعالى فيها تابع لحقوق العباد, بدليل أنها تباح بإباحتهم, ويتصرف فيها بإذنهم)، ومن ثم استحق مكتسب المال صفة المالك تمييزًا لسلطته على ما اكتسب عن غيره من الخلق, قال صلى الله عليه وسلم: "كل ذي مال أحق بماله، وكل ذي حق أحق بحقه، وكل ذي ملك أحق بملكه".

واعتباراً لمعنى حرية التصرفات المالية, جاء عن مالك أنه بلغه أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على آيلة كتب إليه: أن قومي يمترون القمح منها إلى غيرها, وأنه بلغني أن أمير المؤمنين منع طعامًا أن ينتقل.

 فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: ما ظننت أن أحد أبه لهذا, وأن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا, فخل بين الناس، وبين البيع والابتياع, قال مالك: ( كان من العيب الذي يعاب به من مضى, ويرونه ظلمًا عظيمًا منع التجر).

ولولا اعتبار حرية التصرف في الأقوال والأعمال، لما كانت الإقرارات, والعقود, والالتزامات, وصيغ الوصايا, والوقف, مؤثرة آثارها؛ ولذلك لا يلتفت إليها متى تحقق أنها صدرت في حالة إكراه، وبناءً على هذا ذهب الحنفية إلى أنه لو تعاقد اثنان على عدم الاشتغال في التجارة يكون ذلك العقد غير مفيد؛ لأن حرية الإنسان في اختيار الوسيلة المشروعة لاكتسابه من النظام العام في الإسلام فلا ينبغي تقييدها.

واستنادًا إلى هذه المعاني اتفق العلماء على اشتراط الاختيار, وإطلاق التصرف في الشخص الذي يباشر عقد البيع، وإلا فإن البيع لا يصح.

ومما يندرج تحت هذا المعنى قول المالكية بفسخ بيوع  الثنايا ما دام البائع متمسكًا بشرطه؛ وهي أن يبيع الرجل السلعة؛ على أن المشتري لها لا يبيعها ولا يهبها, أو إن باعها المشتري فالبائع أحق بها بالثمن الذي اشتريت به منه, أو على أنه فيها بالخيار إلى أجل بعيد لا يجوز الخيار إليه, أو ما يشبه ذلك من الشروط التي تقتضي التحجير على المشتري وتقيد حرية تصرفه في السلعة التي اشتراها.

وحتى يكون لزوم العقد لزومًا صحيحًا وذا أثر في الواقع اشترط في وجوده حصول صيغ العقود، وهي الأقوال الدالة على التراضي بين المتعاقدين، أو ما يحل محلها ويأخذ حكمها، كالأفعال والإشارة في بعض التصرفات؛ لأن المقصود من العقود هو الرضا فما دل عليه كفى.

ومن أجل هذا قال الفقهاء في حكمة مشروعية البيع، وهي الوصول لما في يد الغير على وجه الرضا، وجعلوا أول أركانه الصيغة، وقالوا في تفسيرها: هي الإيجاب والقبول، أو ما يشاركهما في الدلالة على الرضا الباطن من قول أو فعل قصد به ذلك.

والذي يبدو لي من هذا الكلام أن التراضي أساس الالتزام؛ أي إنه إذا تعاقد شخصان على تصرف معين، وتراضيا به، وجب عليهما الالتزام بمقتضياته .

ولهذا جعل الفقهاء ظهور ما يدل على الرضا بالعيب من المبتاع مانعاً من الخيار ومبطلاً للرد مطلقاً سواء كان ذلك بالقول أو بالسكوت أو بالفعل.

ولا يفهم من هذا الكلام أن كل ما رضى به العاقدان أو أحدهما من التصرفات والالتزامات ملزم له كيفما كان، وإنما يلزمهما مما رضيا به من التصرفات ما كان وقوعه موافقًا للشريعة، أما ما كان مخالفًا لها فهما ممنوعان منه، ولا عبرة لرضاهما به، قال ابن حارث: (انظر فكل صفة انعقدت على ظاهر الصحة والسلامة ثم تبين فيها وجه، لو تعاملا عليه لم يجز البيع فلا يجوز أن يتراضيا بتنفيذ ذلك الوجه الذي لا يحل التعامل فيه).

ولما كان التراضي والطواعية شرط في كل عقد، كان الإكراه على البيع مانعًا من لزومه للمكره عليه؛ وذلك لافتقاده أهلية المعاوضة المبنية على الرشد، وعدم الإكراه، ولهذا المعنى قال الفقهاء في بيع المضغوط: إن البيع لازم من جهة غير المضغوط، ولا خيار فيه إلا للمضغوط وحده.

هذا نزر قليل من فيض الشريعة في مجال المعاملات المالية التي وضعتها للمكلفين الداخلين تحت سلطانها، أردت من خلاله أن ألفت عناية أخواني  غير المنتمين إلى  الاختصاصات الشرعية أن يطالعوا حكمة الشريعة وفلسفتها في هذا النظام المحكم للمعاملات المالية؛ فإنهم سيستمتعون بما يسبح بهم في عالم المثال الإلهي الذي بسلطانه يصقل النفس، ويهذب الطبائع، ويعرج بالتفكير إلى مدارج النماذج المنتخبة لقيادة الأمة والإشراف على سلوكها ليكون مطابقا للسلوك النبوي. 

والله الموفق لما فيه الخير والصلاح لهذه الأمة

 

الدكتور عزالدين بن زغيبة

مدير التحرير      

 

 

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.