• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

مراعاة المصالح في الخطاب الإسلامي وقواعده

مراعاة المصالح في الخطاب الإسلامي وقواعده

أن مفهوم المصلحة في الشريعة لا يعني حصول النفع أو بلوغ لذة يجنيها الفرد أو الجماعة من وراء عمل ما فقط, وإنما هي غاية التشريع وأساس إحكامه جملة, وهي عنصر المعقولية في جانب المعاملات منه. وبهذا تكون الرباط الوثيق الذي يشدّ به الواقع إلى النصّ, ويجعله محكومًا به، كيفما كان العصر والمصر, ومثل هذا لا يترك تفسيره وتحديده لعبث الأهواء.

وبناءً عليه, يجب على ممارس الخطاب الإسلامي أن يعرف أن التعاطي مع جلب المصالح ودرء المفاسد ليس أمرًا  اعتباطيًا أو عشوائيًا يسير فيه على هواه ورغبات شهواته, وإنما هو أمر تتحكم فيه جملة من القواعد الشرعية, والضوابط المرعية, والمعطيات الواقعية, وأحوال المخاطبين وظروفهم, وجهة التعاون الجماعي المراعية لحقوق الفرد ومصالحه المنسجمة مع الجماعة ويمكن تلخيص هذه القواعد والضوابط فيما يأتي:-

  1. إن مصلحة الدين أعلى المصالح كلها وأعظمها, وتحتها ينطوي كل ما فيه مصلحة للمكلفين, قال تعالى: [ الأنعام: 162]، وبهذه الآية يعدّ الدين أساس المصالح كلها؛ ولذلك لم يقبل من الكفار والملحدين ما عملوا من الصالحات, لافتقادهم الأساس الذي تقوم عليه تلك المصالح, وهو الأيمان, قال تعالى: [الفرقان:23 ], قال القرطبي في تفسير هذه الآية: « تأويله: إن الله تعالى أحبط إعمالهم, حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور» بينما يرى ابن عاشور أن الآية ظاهرة فيما كان في نفوس المشركين من الاعتماد على أعمالهم من البرّ لتسلية أنفسهم عندما يسمعوا آيات الوعيد الذين ينتظرهم، فقال: «فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم لئن كان البعث حقًا لنجدن أعمالاً عملناهامن البرّ، تكون سببًا لنجاتنا، فعلم الله ما في نفوسهم, فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذ».
  2.  يجب في المصلحة المعتبرة أن لا تخالف نصّ أو السنّة أو الإجماع المتيقن أو القياس الذي قام الدليل على صحته.

ويقول الغزالي في هذا الصدد: «كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنّة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرّفات الشرع, فهي باطلة مطروحة, ومن صار إليها فقد شرع».

  1. لا تعد المصلحة كذلك إلا من جهة الشرع, فما عدّه الشرع مصلحة, فهو المصلحة قطعًا، وما عدّه مفسده, فهو كذلك, قطعًا، والخروج عن هذا القانون يعدّ دخولاً في سلطان الهوى, وهو أمر ممنوع في الدين، قال تعالى: [ص:26], وهذا الحسم من الشريعة ضروري وغاية في الوقاية للمكلفين من الوقوع في فوضى المدلولات التي ينطوي عليها لفظ المصلحة, ويقول علال الفاسي في هذا الصدد: «إن وضع الإسلام لمقياس تقاس به المصلحة, ضروري لعدم الوقوع فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة مصلحة, والتي يفهمها منها كل واحد بحسب ما يشتمله من إفكار ومذاهب»؛ لأن ما تقوم به أحوال العباد من المصالح لا يدركها إلا خالقهم, وإن حصل لهم علم ببعض وجوهها, فأنه لا يعدّ في الجانب الخفي منها شيء, ويقول الإمام الشاطبي في هذا السياق: «إن كون المصلحة تقصد بالحكم, والمفسدة مفسدة كذلك ممّا يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه .... فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبيل الشارع, بحيث يصدقه العقل, وتطمئن إليه النفس, فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها, إلى إنها تعبديات, وما انبنى على التعبدّي لا يكون إلا تعبّديًا».
  2.  يعد الشرع المصلحة المجلوبة والمفسدة المدفوعة من مقاصده إلا إذا تعلق بها غرض صحيح, ويقول المقري في هذا: «لا يعتبر الشارع من المقاصد إلا ما تعلق به غرض صحيح, من جلب مصلحة أو درء مفسدة؛ ولذلك لا يسمع الحاكم الدعوى في الأشياء التافهة الحقيرة».
  3. إن المصالح والمفاسد لا يرجح منها شيء إلا من جهة الشرع؛ لأن الله سبحانه وتعالى منـزه عن النفع والضر, فلا يحتاج أي منفعة ولا تلحقه مضرة؛ لأنه الغني بإطلاق, وإنما يعود الضر والنفع للإنسان فهو يفتقر إلى ذلك, ومن ثم لا تقبل مصلحة لا اعتبار لها في الشرع وكذلك المفسدة.
  4. قال الباقوري: «اعلم إنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها, بل  المصالح والمفاسد منها ما يكتسب, ومنها مالا يكتسب,, فما يكتسب يقع الأمر به والنهي عنه, ومالا يكتسب,  كحسن الصورة وجودة العقل ووفور الحواس وشدة القوى والرقة والرحمة والغيرة وما  أشبه ذلك, ومثل هذا كقبح الصورة وسخافة العقل وضعف الحواس والغلظة وغير ذلك مما يشبهها, فهذه أشياء لا طاقة على اكتسابها للعبد فهو لا يؤمر بشيء من ذلك ولا ينهى عنه, ولكنه يقع الأمر بآثارها والنهي عن آثارها الضد الآخر فمن أطاع بحسب ذلك فقد أصاب, ومن عصى فقد خاب».
  5. الظاهر أن الاعتماد في جلب معظم مصالح الدنيا والآخرة, ودرء معظم مفاسدها مبني على  الظن؛ لأن المقطوع به منها قليل, ولو فات المضنون به منهما لفسد أمر الدارين ولهلك أهلهما, واعتمادنا على الظن هنا قائم على أن الله سبحانه وتعالى تعبدنا به, كما أن الغالب صدقه عند قيام إسبابه.

هذه سبعة قواعد وضوابط في وجوه المصالح والمفاسد. فعلى المتصدي للخطاب الإسلامي أن يستصحبها معه دائمًا ويجب أن لا تفارق فكره ونظره.

والله الموفق لما فيه الخير والصواب

 

 

الدكتور عز الدين بن زغيبة

 مدير التحرير

 

 

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.