• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

قواعد مراعاة الوسائل واعتبار المصالح في الخطاب الإسلامي

قواعد مراعاة الوسائل واعتبار المصالح في الخطاب الإسلامي

أولا: قواعد مراعاة الوسائل([1]) في تحقيق المقاصد.

        إن المقاصد الشرعية التي ندعو الخطاب الإسلامي المعاصر إلى اعتمادها في منهجه, وجعلها غايته ومطلبه, لا يمكنه التوصل إليها إلا بوسائل متنوعة, إلا أن هذه الوسائل ليست على وزان واحد في تحصيل المقاصد من جهة أوصافها, فهناك الأعلى الذي يوصل إلى أعلى المقاصد, وهناك الأدنى الذي يوصل إلى أدناها, والمتوسط منها متوسط فيها, كما أن تلك الوسائل تعتريها الأحكام الخمسة من جهة الشرع فمنها الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام, إلا أن هذه الأحكام الخمسة التي تتقلب الوسائل في منازلها ليس من جهة استقلال تلك الوسائل بالحكم في ذاتها, وإنما من جهة تبعيَّتِهَا لأحكام المقاصد الموصلة إليها, وبناء عليه فقد  قرر علماؤنا في باب الوسائل والمقاصد قاعدة عظيمة تنظم العلاقة بينهما, وتحدد موقع الآثار المترتبة على تلك العلاقة من أحكام الشريعة, فقالوا: (الوسائل تتبع المقاصد في أحكامها ). ([2])

        ويتفرع على الأصل الذي سبق ذكره سبع قواعد يجب على المتعاطي للخطاب الإسلامي أن يضعها نصب عينيه, وعلامات مضيئة تنير له طريقه ومسيرته, وهذه القواعد هي:

1 – الوسيلة إلى الواجب واجبة ومنها جاء قولهم: مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ([3]).  ويتبع هذا القول: أن الوسيلة إلى المندوب مندوبة أيضاً .

ويدخل في هذا الباب جميع فروض الكفاية؛ من أذان وإقامة وإمامة صغرى وكبرى وولاية القضاء وجميع الولايات, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتجهيز الموتى وتكفينهم وتغسيلهم, وكذلك التجارة والزراعة وجميع الحرف والصنائع اللازمة لحاجة الناس إليها.

2 – الوسيلة إلى الحرام حرام, ومنها جاء قولهم: ما أفضى إلى الحرام فهو حرام ([4]), ويدخل في هذه القاعدة: أن ما أدى إلى المكروه فهو مكروه أيضاً.

        ومما يدخل تحت هذه القاعدة ؛ بيع العنب لمن يعصرها خمراً, وبيع السلاح وقت الفتنة, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ... فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ).

        ومما يندرج في هذا الباب نهيه تعالى المؤمنين عن سب آلهة الكفار؛ لأنه يفضي إلى سب الكفار لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيراً، فقال سبحانه: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدواً بغير علم ) ([5]), ومنها النهي عن كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء, كسوم المسلم على سوم أخيه, وخطبته على خطبته.

3 – كل مباح توصل به إلى ترك واجب أو فعل محرم فهو حرام ([6]).

        قال تعالى: ( ياأيها الذبن آمنوا إذا نودي إلى الصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) ([7]), ولهذا النص فإنه يحرم البيع والشراء بعد نداء الجمعة الثاني, ومن هذا القبيل عدم جواز بيع الأشياء المباحة لمن يعمل بها معصية.

4 – إذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة ([8]).

        ويدخل في هذا الباب حكم استعمال بعض صيغ العقود في غير ما وضعت له إذا قرن بها ما يصرفها إلى مقصوده, مثل استعمال لفظ ( وهبت ) في عقد الإنكاح إذا قرن بلفظ صداق, وكذلك لفظ ( ملكتكها ).

5 – قد تكون وسيلة الحرام غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة ([9]).

        ومما يدخل تحت هذه القاعدة؛ إباحة النظر إلى المخطوبة والسفر بها إذا خيف ضياعها كالسفر بها من دار الحرب, مثل سفر أم كلثوم, وسفر عائشة رضي الله عنها لما تخلفت مع صفوان بن المعطل فإنه لم ينه عنه ([10]), ومنها نظر الطبيب إلى العورة عند المعالجة, ومنها دفع المال للمحارب حتى لايتقاتلان, واشترط مالك فيه اليسارة ([11]).

6 – إن الوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل, والمتوسطة متوسطة, والمقاربة قد يختلف في إلحاقها بالمفضي ([12]).

7 -  قال ابن عاشور: وقد تتعدد الوسائل إلى المقصد الواحد فتعتبرالشريعة في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً بالمقصد المتوسل إليه, بحيث يحصل كاملاً , راسخاً, عاجلاً, ميسوراً, فتقدمها على وسيلة هي دونها في هذا التحصيل, وهذا مجال متسع صدق فيه نظر الشريعة إلى المصالح وعصمتها من الخطأ والتفريط, وإذا قدرنا وسائل متساوية في الإفضاء إلى المقصد باعتبار أحواله كلها, سوت الشريعة في اعتبارها وتخيير المكلف في تحصيل بعضها دون الآخر, إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها. ([13])

ثانيا: مراعاة قواعد اعتبار المصالح في الخطاب الإسلامي.  

إن مفهوم المصلحة في الشريعة لا يعني حصول النفع أو بلوغ لذة يجنيها الفرد أو الجماعة من وراء عمل ما فقط, وإنما هي غاية التشريع وأساس أحكامه جملة وتفصيلاً, وهي عنصر المعقولية في جانب المعاملات منه, وبهذا تكون الرباط الوثيق الذي يشدّ الواقع إلى النصّ, ويجعله محكوماً به, كيفما كان العصر والمصر, ومثل هذا لا يترك تفسيره وتحديده لعبث الأهواء.

        وبناءً عليه يجب على ممارس الخطاب الإسلامي أن يعرف أن التعاطي مع جلب المصالح ودرء المفاسد ليس أمراً اعتباطياً أو عشوائياً يسير فيه على هواه ورغبات شهواته, وإنما هو أمر تتحكم فيه جملة من القواعد الشرعية, والضوابط المرعية, والمعطيات الواقعية, وأحوال المخاطبين وظروفهم, وجهة التعاون الجماعي المراعية لحقوق الفرد ومصالحه المنسجمة مع الجماعة ويمكن تلخيص هذه القواعد والضوابط فيما يأتي:

1 - إن مصلحة الدين أعلى المصالح كلّها وأعظمها, وتحتها ينطوي كل ما فيه مصلحة للمكلّفين, قال تعالى : )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين( [14] , وبهذه الآية يعدّ الدين أساس المصالح كلها, ولذلك لم يقبل من الكفار والملحدين ما عملوا من الصالحات, لافتقادهم الأساس الذي تقوم عليه تلك المصالح, وهو الإيمان, قال تعالى: )وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً([15], قال القرطبي في تفسير هذه الآية: " تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم, حتّى صارت بمنزلة الهباء المنثور "[16] بينما يرى ابن عاشور أن الآية ظاهرة فيما كان في نفوس المشركين من الاعتماد على أعمالهم من البرّ لتسلية أنفسهم عندما يسمعوا من آيات الوعيد الذي ينتظرهم, فقال : " فالظّاهر أنّ المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم لئن كان البعث حقّا لنجدن أعمالا عملناها من البرّ, تكون سببا لنجاتنا, فعلم الله ما في نفوسهم, فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذ " [17] .

2 - يجب في المصلحة المعتبرة أن لا تخالف نصّ الكتاب أو السنّة, أو الإجماع المتيقن [18], أو القياس الذي قام الدليل على صحتّه .

ويقول الغزالي في هذا الصدد: " كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنّة والإجماع, وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرّفات الشرع, فهي باطلة مطروحة, ومن صار إليها فقد شرع " [19] .

3 - لا تعتبر المصلحة كذلك إلا من جهة الشرع, فما عده الشرع مصلحة, فهو المصلحة قطعاً, وما عدّه مفسده, فهو كذلك, قطعاً, والخروج عن هذا القانون يعدّ دخولاً في سلطان الهوى, وهو أمر ممنوع في الدين, قال تعالى: )ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله( [20], وهذا الحسم من الشريعة ضروري وغاية في الوقاية للمكلفين من الوقوع في فوضى المدلولات التّي ينطوي عليها لفظ المصلحة, ويقول علال الفاسي في هذا الصدد: " إن وضع الإسلام لمقياس تقاس به المصلحة, ضروري لعدم الوقوع في فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة مصلحة, والتّي يفهمها منها كل واحد بحسب ما يشتمله من أفكار ومذاهب "[21]؛ لأن ما تقوم به أحوال العباد من المصالح لا يدركها إلا خالقهم, وإن حصل لهم علم ببعض وجوهها, فإنّه لا يعدّ في الجانب الخفي منها شيء, ويقول الإمام الشاطبي في هذا السياق: " إن كون المصلحة تقصد بالحكم, والمفسدة مفسدة كذلك ممّا يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه .... فإذاً كون المصلحة مصلحة هو من قبيل الشارع, بحيث يصدقه العقل, وتطمئن إليه النفس, فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها, إلى أنها تعبديات, وما انبنى على التعبدّي لا يكون إلا تعبّدياً)) [22] .

4 -  لا يعتبر الشرع المصلحة المجلوبة والمفسدة المدفوعة من مقاصده إلا إذا تعلق بها غرض صحيح, ويقول المقري في هذا: ( لا يعتبر الشارع من المقاصد إلا ما تعلق به غرض صحيح, من جلب مصلحة أو درء مفسدة؛ ولذلك لا يسمع الحاكم الدعوى في الأشياء التافهة الحقيرة. ([23]) 

5 - إن المصالح والمفاسد لا يرجح منها شيء إلا من جهة الشرع؛ لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن النفع والضر, فلا يحتاج أي منفعة ولا تلحقه مضرة؛ لأنه الغني بإطلاق, وإنما يعود الضر والنفع للإنسان فهو يفتقر إلى ذلك, ومن ثم لا تقبل مصلحة لا اعتبار لها في الشرع وكذلك المفسدة.

6 - قال الباقوري: اعلم أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها, بل المصالح والمفاسد منها ما يكتسب, ومنها مالا يكتسب, فما يكتسب يقع الأمر به والنهي عنه, ومالا يكتسب كحسن الصورة وجودة العقل ووفور الحواس وشدة القوى والرقة والرحمة والغيرة وما أشبه ذلك, ومثل هذا كقبح الصورة وسخافة العقل وضعف الحواس والغلظة وغير ذلك مما يشبهها, فهذه أشياء لا طاقة على اكتسابها للعبد فهو لايؤمر بشيء من ذلك ولا ينهى عنه, ولكنه يقع الأمر بآثارها والنهي عن آثارها الضد الآخر فمن أطاع بحسب ذلك فقد أصاب, ومن عصى فقد خاب. ([24])  

7 - الظاهر أن الاعتماد في جلب معظم مصالح الدنيا والآخرة, ودرء معظم مفاسدها مبني على الظن؛ لأن المقطوع به منها قليل, و لو فات المضنون به منهما لفسد أمر الدارين ولهلك أهلهما, واعتمادنا على الظن هنا قائم على أن الله سبحانه وتعالى تعبدنا به, كما أن الغالب صدقه عند قيام أسبابه.

        هذه سبعة قواعد وضوابط في وجوه المصالح والمفاسد فعلى المتصدي للخطاب الإسلامي أن يستصحبها معه دائما ويجب أن لا تفارق فكره ونظره.  

 

الدكتور عزالدين بن زغيبة

رئيس قسم الدراسات والنشر

والشؤون الخارجية

مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث

 

 

 

 

[1]  قال ابن عاشور في بيان ماهيتها, " الوسائل:  هي الأحكام التي شرعت ليتم بها تحصيل أحكام أخرى, فهي غير مقصودة لذاتها, بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل. (ابن عاشور: مقاصد الشريعة, ص: 148).

       إذن فالوسائل : هي مجموع الطرق أو المسالك أو الأحكام المفضية إلى المقاصد المنتظرة منها, ويدخل في الوسائل بهذا المعنى ؛ الأسباب المعرفات للأحكام, والشروط وانتفاء الموانع , ويدخل فيها أيضاً ما يفيد معنى كصيغ العقود وألفاظ الواقفين, في كونها وسائل إلى معرفة مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه. (ابن عاشور : مقاصد الشرية,  ص: 148 – عبد الرحمن بن ناصر السعدي: القواعد والأصول الجامعة, ص: 25 -  26 ).

([2])  القرافي : الفروق, ج: 1, ص: 111 – المقري: القواعد, مخطوط, الورقة 120 وجه – عبد الرحمن بن ناصر السعدي: القواعد والأصول الجامعة, ص: 25 – ابن عاشور: مقاصد الشريعة, ص: 145.          

([3])   ابن السبكي: الأشباه والنظائر, تحقيق عادل أحمد عبد الوجود وعلي محمد عوض, ج:  1 ص: 120 – عبد الرحمن بن ناصر السعدي: القواعد والأصول الجامعة, ص:  36.

([4])   ابن السبكي: الأشباه والنظائر, ج: 1 ص: 120 – الونشريسي: المعيار المعرب والجامع المغرب, خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حاجي, ج: 5 ص: 25 -  ابن ناصر السعدي: القواعد والأصول الجامعة, ص: 35 -  36.

([5])   الأنعام: 108.

([6])   ابن ناصر السعدي: القواعد والأصول الجامعة,  ص:38.

([7])   الجمعة: 9.

([8])   القرافي: الفروق, الفرق: 86 – المقري: القواعد, مخطوط, ورقة 120, وجه – ابن جزي تقريب الوصول, 111 – ابن عاشور: مقاصد الشريعة, ص: 148.

([9])   المقري: القواعد,  ج:2 ص: 364 – ابن تيمية: مجموع الفتاوى, جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم, ص: 186 , 187.

([10])  ابن تيمية: مجموع الفتاوى, ج: 23 ص: 186 , 187.

([11])  المقري: القواعد, ج: 2 ص: 394.

([12])  المصدر نفسه, ج: 2 ص: 333 – وانظر ابن عاشور: مقاصد الشريعة, ص: 145 .

([13])  ابن عاشور: مقاصد الشريعة, ص: 149.

[14] الأنعام, 162 .

[15] الفرقان, 23 .

[16] الجامع لأحكام القرآن 13/22 .

[17] التحرير والتنوير, 19/8 .

[18] هذا لايدخل فيه إجماع تأسيس أمره على مصلحة دنيوية غير ثابتة, فيجوز أن يتغيّر حينئذ ذلك الإجماع بمثله إذا تغيّرت المصلحة الأولى, وقامت مصلحة غيرها .

[19] المستصفى, 1/310, 311 .

[20] سورة ص 26 .

[21] مقاصد الشريعة, 189 .

[22] الموافقات, 2/315 .

([23])  المقري: القواعد, مخطوط , تونس: دار الكتب الوطنية, تحت رقم: 14682,  الورقة: 118 وجه.

([24])  الباقوري: ترتيب الفروق , مخطوط, تونس: دار الكتب الوطنية,  تحت رقم: 12298, مقدمة المخطوط, القاعدة السادسة.

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.