• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

التكثير من التبرعات والعمل الخيري.

التكثير من التبرعات والعمل الخيري.

          لقد أوجب الله المواساة وندب إليها, ورغب في الصدقات وحرض عليها وحث على وجوه البر والتبرعات ودعا إلى التكثير منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة, ولهذا المعنى عقد مالك في موطئه تحت كتاب الجامع ( باب الترغيب في الصدقات ) وعلق ابو بكر بن العربي على هذه الترجمة فقال: ( جاء مالك رضي الله عنه في هذه الترجمة بفائدة عظيمة, أخرجها بها من أبواب الأحكام إلى أبواب الفضائل ونبه بها على فضل الصدقة وشرفها )  ولما كان شح النفوس حائلا دون تحصيل كثيرا منها, دلت أدلة الشريعة على الترغيب فيها, فوصفت الذين يقون أنفسهم من شحها ويروضونها على السخاء والعطاء بالمفلحين قال تعالى: ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ), كما أثنت على المنفقين المتصدقين وبشرتهم بيسر الحساب يوم القيامة, وذمت المقترين المانعين وتوعدتهم بعسر الحساب, حيث قال تعالى: ( وأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ), قال ابن عباس رضي الله عنهما: في تفسير هذه الآية: يعني من أعطى فيما أمر واتقى فيما حظر وصدق بالحسني يعني بالخلف من عطائه, ثم قال رضي الله عنهما: سادات الناس في الدنيا الاسخياء وفي الآخرة الاتقياء.

          وقد نقل الماوردي عن بعض الفصحاء قولهم: (خير الأموال ما استرق حرا, وخير الأعمال ما استحق شكرا).

          وتأييدا لجانب التبرعات والترغيب فيها وإقامة لمسلك تكثيرها جعلت الشريعة التصرفات المتعلقة بها من الأعمال التي لاينقطع ثوابها بعد الموت فقد جاء في الحديث الصحيح: ( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به وولد صالح يدعوا له), ولقد دلت دلائل الشريعة المتساندة على أن مسلك تكثير التبرعات والأعمال الخيرية أمر مطلوب في الأمة شرعا فهذه الصدقات الجارية والأوقاف المتتالية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ومن أصحابه رضي الله عنهم كثيرة منها: صدقة عمر وقد أشار عليه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك صدقة إبي طلحة الأنصاري فإنها كانت بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنها صدقة عثمان بن عفان رضي الله عنه ببئر رومة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين), فاشتراها عثمان وتصدق بها على المسلمين, وعن ابن عباس ( أن سعد بن عبادة رضي الله عنه: توفيت أمه وهوغائب عنها, فقال: فقال يارسول الله توفيت أمي وأنا غائب عنها, أينفعها شيء إن تصدقة به عنها؟ قال: نعم قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها), وعلق ابن عاشور على هذه النصوص قائلا: وكانت هذه الصدقات أوقافا ينتفع المسلمون بثمرتها على تفصيل في شروطها, فلا شبهة في أن من مقاصد الشريعة إكثار هذه العقود, ولهذا المعنى أنكر مالك على القاضي شريح مقالته بحضر التحبيس وقال: ( رحم الله شريحا تكلم ببغداد ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم, وهذه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حوائط, وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا,  ويندرج في سلم هذه المعاني جواب مالك رحمه الله عندما سئل عن الرجل يخرج بشيء إلى المسكين ليعطيه أياه فيجده قد ذهب قال: يعطيه غيره. ومن فروع هذا الباب نهي الرجل من أن يعود في صدقته تنزيها لنفسه من اتباع ما واست به, وحتى لايعمد الناس إلى أعمال الخير التي قامو بها فيعودون فيها, ففي الموطأ والصحيحين ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بفرس في سبيل الله ثم وجده يباع, وظن أن صاحبه بائعه برخس فسأل رسول الله عن ذلك فقال له: لا تشتره ولو باعه بدرهم, فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه), وقد اعتبر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن هذا التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إشارة على المستشير وهو حالة من جملة الأحوال التي يصدر فيها قول أو فعل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث علق على الحديث السالف الذكر قائلا: فهذه إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه, ولم يعلم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مثل ذلك نهيا علنيا, فمن أجل ذلك اختلف العلماء في محمل النهي فقال الجمهور: هو نهي تنزيه كيلا يتبع الرجل نفسه ماتصدق به فجعله لله, وعلى هذا حمل قول مالك في الموطأ والمدونة, لجزمه أن ذلك البيع لو وقع لم يفسخ.

          إن من أعظم التبرعات في المواساة قدرا, وأكثرها في الناس أثرا الأحباس ( الوقوف), لدوام نفعها وعمومه في الخلق, ولم يكن أهل الجاهلية يعرفونه ولكنه عمل استنبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم, لمصالح لا توجد في غيره من الصدقات والتبرعات, لأن الناس قد يصرفون في سبيل الله مالا كثيرا, ثم يفنى وينتهي فيحتاج الذين صرف عليهم ذلك المال إلى مال آخر, ثم يأتي أقوام آخرين من الفقراء والمساكين ويبقون محرومين, فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون لهم وقفا تصرف منافعه على فقرائهم وذوي الحاجة منهم, ويبقى أصله على ملك الواقف, وهو المعنى الذي حمله قول رسول اله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها), فتصدق بها عمر رضي الله عنه ( أنه لا يباع أصلها, ولا يوهب, ولا يورث ..... ولاجناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول).

          ونظرا لأهمية الوقف وخطورته في تلبية مصالح الفقراء من المسلمين سعت الشريعة إلى الإكثار منه والحث عليه وتسهيل وسائل انعقاده, وحسم كل تصرف يؤدي إلى إفنائه أو تعطيله أو إخراجه عن مقصوده, فقد أجاز الفقهاء الوقف على شيء يقع في المستقبل لينتفع به فقراء المسلمين قبل وقوع ذلك الشيء, قال ابن نجيم: ( لايشترط لصحة الوقف على شيء وجود ذلك الشيء وقته, فلو وقف على أولاد زيد ولا ولد له صح وتصرف الغلة إلى الفقراء إلى أن يوجد له الولد), وذهب المالكية في المشهور من أقوالهم: إلى عدم جواز بيع الأحباس بحال حتى لايؤدي ذلك إلى الإخلال بمقصد تكثيرها, وتناقص منافعها عن ضعاف المسلمين, سئل الفقيه أبو عمران موسى العبدوسي رحمه الله عن بيع الأحباس, فأجاب: الذي يتقلده محبكم بما قيل في بيع الأحباس ما هو المشهور من المذهب, أن لا يباع الحبس بحال سواء كان محبسا أصلا أو اشتري مما يوفر من مال الأحباس, وسواء كان كاملا, أو بعضا.        

          إن الشريعة لما أمرت بالمواساة ورغبت فيها, وندبت إلى أعمال البر والصلة ووجهت إليها وطلبت من المسلمين فعل الخيرات طلبا حثيثا, حذرت من ليس بحاجة إلى المواساة من التعرض إليها لئلا يتاواكل المسلم ويركن إلى البطالة ويترقب مافي أيدي الناس, ففي الحديث الصحيح (إن المرء يسأل الناس حتى يلقى الله يوم القيامة وما على وجهه قزحة لحم ), وقال صلى الله عليه وسلم: ( لأن يأخذ أحدكم حبله ويحتطب, خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه), وجاء في السنة أيضا (اليد العليا خير من اليد السفلى إلى يوم القيامة ), وقال محمد بن ثور: ( كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس في المسجد الحرام, فقول: ما يجلسكم, فنقول: فما نصنع, فيقول: اطلبوا من فضل الله ولا تكونوا عيالا على المسلمين)  وأثنى الله تعالى على قوم يتعففون عن إظهار فقرهم فقال: ( للفقراء الذين أحصرو في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بساماهم لا يسألون الناس إلحافا), لأن أخذ الترعات من قبل من لا يستحقها يعود بالإبطال على مقصد تكثيرها ويجعل إنفاقها غير ذي معنى.

 

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.