• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

الإمام مالك وتأسيس المصطلح الفقهي

الإمام مالك وتأسيس المصطلح الفقهي

 مما تميّز به دور التأصيل في المذهب المالكي- والذي أشرف عليه مالك بنفسه - تأسيس مالك – رضي الله عنه - للمصطلح الفقهي الخاص بالمذهب، وقد سلك فيه طريقتين:

الطريقة الأولى: وهي الطريقة العامة التي اشترك فيها مع إخوانه من أئمة المذاهب الأخرى، وترجع إلى جملة المعاني التي وضعت بلسان القرآن الكريم، أو بلسان السنة الشريفة، فهذه ليس لأي كان تغييرها وتبديل دلالتها على غير ما أطلقت فيه، أو جملة الألفاظ والمسميات المبنية على الأوضاع التي صارت من الحقائق العرفية؛ حيث يستوي الناس في استعمالها والفهوم في إدراك مدلولاتها.

أما الطريقة الثانية: وهي الخاصة، والتي اعتمد فيها على عبقريته اللغوية وأساليب التعبير الجارية عند أهل الحجاز، وتتجلى لنا مظاهر هذا العمل اللغوي في بناء المصطلح الفقهي الخاص بالمذهب في كتاب الموطأ من خلال سبعة أنحاء؛ هي:

1 - القصد إلى الحقائق الشرعية وتنزيلها على محالها بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده في ضبط المعنى المقصود من ذلك اللفظ الشرعي، وذلك مثل لفظ " العرية "، فقد فسرها مالك، وبين وجه الرخصة فيها في الموطأ بما جاء مخالفًا لبعض المذاهب وموافقًا للبعض الآخر، وقد بسط هذا الأمر ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد، ومن هذا الباب أيضًا: النهي عن " الملامسة " " والمنابذة "، وما فسر به مالك – رضي الله عنه - ماهيتها وتحقق معنى الضرر فيها والفرق بين معناها، ومعنى بيع الأعدال على " البرنامج "، ويدخل في هذا الباب أيضًا تفسيره " للركاز"؛ بأنه دفن الجاهلية خلافًا لمن يفسره بالمعادن، ومنه تفسير " النجش " الذي ورد في الحديث أنه – صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، قال مالك: – رضي الله عنه - النجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها، وليس في نفسك اشتراؤها، فيقتدي بك غيرك، ومثل هذا النحو من تقرير الحقائق الشرعية كثير في الموطأ.

2 - التعبير عن صورة من الأحكام أو باب منها بعبارة لم ترد لذلك الباب بخصوصه في لسان الشرع، ولكنها استمدت من تعبير شرعي فيما لا يختلف عن المعنى المقصود، فانتزعت المعنى المقصود، وخصصت به، وأصبحت حقيقة عرفية فيه؛ مثل تعبير الإمام في الموطأ عن ميراث الأولاد من والدهم أو والدتهم باسم ميراث الصلب، وهو التعبير الذي شاع بعد ذلك بين الفرضيين؛ قال القاضي أبوبكر بن العربي إن مالكًا – رضي الله عنه - هـو أول مـن عير بهـذه العبارة آخذًا إياها من قوله تعالى:ﭐ ﱡﭐ ﱠ الطارق: ٧.

3 - تعبير تقرر عند فقهاء المدينة من قبل، فاعتمده مالك وعير به وطبقه على محله، وفصل صوره كما في لفظ العهدة، وتقسيمها إلى عهدة الثلاث وعهدة السنة وتخصيصها بالرقيق.

4 - التصرف بالاختيار بين لفظين وردا مترادفين في استعمال الحقائق الشرعية والاقتصار على أحدهما حتى أصبح تخصصه بذلك مصطلحًا عرفيًا، وذلك مثل اختيار لفظ " القراض " على لفظ " المضاربة "، قال ابن رشد الجد: ( القراض: هذا اسمه عند أهل الحجاز، وأما أهل العراق فلا يقولون قراض البتة، ولا عندهم كتاب القراض، وإنما يقولون مضاربة وعندهم كتاب المضاربة )، ومن هذا القبيل " الحبس " في مقابلة " الوقف "، وقد قال ابن رشد في هذا: ( الحبس والوقف معناها واحد لا يختلفان في وجه من الوجوه)، ومن ذلك اختيار " الصداق " على " المهر "، وهما مترادفان، وقد استعمل الفقهاء من المالكية وغيرهم اللفظين معًا بمعنى واحد إلا أن الإمام مالكًا في الموطأ أكثر ما استعمل لفظ الصداق، وإن عبر بالمهر أحيانًا.

5 - أسماء راجت على ألسنة الناس تبعًا لرواج مسمياتها فعبر بها في مقام تقرير الحكم الشرعي المنطبق عليها، ومثال ذلك بيع " العينة "، وهو البيع بثمن إلى أجل ثم اشتراء نفس المبيع بأقل من ذلك الثمن كما فسرها في القاموس، وقد عنون بها مالك – رضي الله عنه - تصور بيع الطعام قبل قبضه، ومن مثل هذا أيضًا " الرقبى "، وهي تحبيس رجلين دار بينهما على أن من مات منهما فحظه حبس على الآخر، وقد قال ابن القاسم لم يعرف مالك الرقبى، ففسرت له فلم يجيزها، ومن مثله أيضًا استعمال الطعام بمعنى البر كما هو الجاري في تعبير أهل الحجاز كما صرح به الشيخ أبو الحسن في شرح الرسالة.

6 - معاني فقهية قال بها الإمام مالك – رضي الله عنه - وارتجل التعبير عنها بألفاظ تصلح للوفاء بمعناها ولكنها لم تستعمل عند غيره في خصوص ذلك المعنى؛ مثل " الاعتصار" للرجوع في العطية، وهو أصل اللغة مطلق الطلب والأخذ، ومثل البيع على البرنامج الذي جعله عنوانًا للبيع على الصفة والمقادير الضابطة، وهذا راجع لا محالة إلى ما عرف به مالك – رضي الله عنه - من متانة السليقة وقوة الارتجال في اللغة بتعبير فصيح.

7 - ما يرجع إلى مجرد الذوق في اختيار التعبير أو اختيار المناسبة والترتيب مما يخترع له الإمام مالك – رضي الله عنه - ما انفرد به، ولم يسبق إليه مثل اختراع كتاب الجامع في ختام الموطأ للمعاني المفردة التي لم يتأت له جمعها في كتاب فجمعها أشتاتًا في كتاب الجامع، وهو اختراع نبه إليه أبو بكر بن العربي. ويدخل في هذا المعنى الجوامع التي ختم بها كتبًا من الموطأ يجمع فيها المسائل المفردة التي لم تفصل على تراجم مثل: جامع الصيام وجامع الحج وجامع الطلاق وجامع بيع الثمار وجامع الطعام وجامع البيوع وجامع القضاء وغيرها.  

 

جزء من النص

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.