• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

الأعمال الكبرى في المذهب المالكي التفريع والتدوين نموذجا

الأعمال الكبرى في المذهب المالكي التفريع والتدوين نموذجا

الناشر

       عندما نتحدث عن الأعمال الكبرى في أي مذهب من المذاهب الفقهية المشهورة, فلا شك أننا نتحدث عن عملية بناء أصول المذهب, وكذا عملية التفريع في المذهب, وتأسيس المصطلح الخاص بالمذهب, وتدوين المذهب, ومسألة تأسيس المشهور وتمحيصه من مجموع الأقوال المتراكمة في المذهب, إلى جانب العملية الكبرى والواسعة ألا وهي عملية التطبيق لتلك الاجتهادات على الوقائع والنوازل اللاحقة وما يتبع ذلك من عمليات تنقيح المناط وتحقيقه وتخريجه, وسنكتفي في موضوعنا هذا بدراسة عملية التفريع والتدوين في المذهب المالكي وبشكل مختصر نسبيا وذلك لبيان فكرته وتوضيح صورتها وليست دراسة مفصلة للموضوع

 

1 – المذهب المالكي وعملية التفريع.

 

إن المذهب المالكي لم يسم مالكياً إلا لأن الأصول الاجتهادية والمبادئ الكلية التي تستنبط بها الأحكام  الشرعية التفصيلية من أدلتها الإجمالية وعدِّ بعض الأدلة الإجمالية حجة في إثبات الأحكام مع مخالفة الغير، وعدم عدِّ أخرى كذلك مع استقرارها في أصول الاستدلال لدى الغير، كل ذلك كان من اجتهاد مالكy، فهو بهذا وضع أصول المذهب وصح أن ينسب المذهب إليه وأن يحسب فقهاء هذا المذهب عليه مع أنهم قد يوافقونه وقد يخالفونه في فروع كثيرة.

 

       وبمالك y تكون رجال فقهاء من أمصار إسلامية مختلفة، كما تكون هو برجال قبله وما كان لهؤلاء الرجال أن يبقوا حبسي المدينة بعد أن أخذوا علم إمامها وإمام مذهبهم فيما بعد فعرفوا أصوله، وحفظوا مسائله وأدركوا منهجه في الفتوى وطرق اجتهاده واستنباط الأحكام العملية التفصيلية من أدلتها الإجمالية وتمكنوا من الآثار التي يرويها بسنده العالي عمن سبقوه من الصحابة والتابعين ، حتى حصل لكل واحد منهم اقتناع بأنه من مالك في علمه بمنزلة الابن من أبيه بما حازه من علم إمامه في الأصول والفروع والرواية وأنه بإمكانه أن يخلفه في قومه الذين تفر منهم إذا رجع إليهم.

 

وإن هؤلاء الذين أسميناهم تلاميذ مالك أو أصحاب مالك لم يكونوا في الحقيقة إلا مجتهدين ، كما كان إمامهم يجتهد لأن اجتهادهم كان مقيداً واجتهاد إمامهم كان مطلقاً .

 

ومعنى الإطلاق والتقييد هنا راجع إلى أمر يتعلق بالنظر في الأصول والفروع والاجتهاد في تحقيقها وإقامتها ويقول الشيخ الفاضل ابن عاشور في هذا المعنى : ( ومعنى الإطلاق والتقييد هنا راجع إلى معنى الأصول والفروع فإن الذي اجتهد في وضع الأصول والذي نظر فيما ينبغي أن يكون حجة، وما لا ينبغي أن يكون حجة وقرر مثلا أن عمل أهل المدينة حجة وأن الاستحسان ليس بحجة وأن سد الذرائع حجة وأن قول الصحابي  ليس بحجة وإلى غير ذلك من الأصول هو مالك بن انس y فكوّن بذلك منهجاً في الطريقة الاستدلالية، فجاء أصحابه مجتهدين متكونين تكونة في الاجتهاد، ولكنهم جعلوا هذه الأصول التي وضعها مالك y  بالاستقراء ضابطة لحجية ما يمكن أن تستخرج منه الأحكام الشرعية التفصيلية العملية فالتزموا ذلك فكان مقيدا لاجتهادهم لأنهم أصبحوا يجتهدون في الفروع ولا يجتهدون في الأصول بينما كان هو يجتهد في الأصول وفي الفروع .

 

فإن قيل أنهم مالكية فإنهم ماليكة في الأصول ومالكية في المنهج، ولكنهم لم يكونوا مقيدين كما يقيد المستفتي مقتيه ، لأنهم كانوا ينظرون في الأدلة كما ينظر مالك، ويستخرجون منها الفروع كما يستخرج، بدليل أنهم اختلفوا عن إمامهم اختلافاً واضحاً في مسائل كثيرة أصبحت في قوام الدراسات الفقهية.

 

فاجتهاد أصحاب مالك، كان اجتهادا تفريعيا على الأصول التي وضعها مالك y، وقياسا على المسائل التي أفتى فيها، ولذلك سمي هذا الدور بدور التفريع، ويمتد زمانه نحو قرن من الزمان أو ما يزيد عنه بقليل, أي ما بين 150 هـ و250 هـ، وأول من أطلق هذه التسمية الشيخ الفاضل ابن عاشـــور.

 

ولئن كان مذهب المالكي في دور التأصيل ذو بيئة واحدة هي بيئة المدينة المنورة وقائم على رجل واحد هو مالك y، فإن المذهب في دور التفريع أصبح ذو بيئات عديدة وله رجال كثر فإلى جانب المدينة كانت هناك أربعة أمصار أخرى هي مصر والقيروان والأندلس والعراق وقد تفرق في جميعها رجال من أصحاب مالك وحاملي لواءه في العلم والفقه، فتكونت بهم حركة جديدة في المذهب المالكي وهي حركة التوسع في مجال التفريع بناء على ما أسسه مالك من الأصول.

 

فمن رجال هذا الدور بالمدينة – المركز الأصلي للمذهب – نجد المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي ( ت: 188هـ )ومحمد بن إبراهيم بن دينار ( ت: 183 هـ )، وعثمان بن عيسى بن كنانة ( ت: 186هـ)، وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون (ت:  212هـ) وغيرهم.

 

ومن رجال هذا الدور بمصر عبد الرحمن بن القاسم( ت:191هـ) ، وعبد الله بن وهب(ت: 197هـ)، وأشهب بن عبد العزيز (ت:204هـ)، وعبد الله بن عبد الحكيم بن أعين(ت 214هـ)، ويحيى بن عبد الله بن بكير (ت: 231هـ)، وسعيد بن الحكم بن أبي مريم الجمحي (ت224هـ)، ومن رجال هذا الدور بإفريقية، علي بن زياد التونسي(ت183هـ)، والبهلول بن راشد(ت: 183هـ)، وأسد بن الفرات (ت  : 213هـ)، وسحنون بن سعيد التنوخي (ت: 240هـ).

 

أما المدرسة الأندلسية فمن رجالها في هذا الدور ، زياد بن عبد الرحمن الملقب بثبطون (193هـ)، والغازي بن قيس(ت199هـ)،أول من أدخل الموطأ للأندلس، ومحمد بن سعيد بن بشير بن شرجبيل القاضي(198هـ)، ويحيى بن يحيى الليثي(ت234هـ)، عبد الملك ابن حبيب(ت238هـ)، أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز عتبة المعروف بالعتبي (ت: 254هـ).

 

 وأما المدرسة العراقية فمن رجالها في هذا الدور، فإننا نجد منهم رجلين فقط وهما : عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العتيري (ت198هـ)، وعبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي(221هـ).

 

2 – تدوين المذهب المالكي.

 

إن الذي نعنيه بالتدوين هو تدوين الفرع المشتملة على المسائل والفتاوى المتلقاة عن الإمام مالك y، وأقوال الإمام مالك y،التي تضمنها الموطأ فهذه تشكل في معظمها أصول المذهب ومادته العامة وأمر تدوينها قد حسم فيه مالك نفسه بتأليفه الموطأ، أما مسألة الفروع التي أشرنا إليها سابقاً، والتي هي عماد المذهب فإن فضل السبق في تدوينها كان لعلي بن زياد، فهو أول من كتب مسائل الفقه والفتاوى التي تكلم بها مالك بن أنس، ولم يكن حينها واحد من أصحاب مالك حتى ابن القاسم قد دون الفقه والمسائل كتابة فأقبل علي بن زياد على تصنيف المسائل وتبويبها وخرجها كتبا على مواضيع الأبواب الفقهية وسم جملة الكتاب بذلك الاسم الطريف الذي يعنون عمله ألا وهو ( خبر من زننه)، وبعلي بن زياد تكون الفقيهان الجليلان الذان قام عليهما تدوين الفقه المالكي اشتراكا مع علي بن زياد وابن القاسم، وهما أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد التنوخي، فكان تكونهما به موجها لكل منهما أن يدون ويكتب الكتب الجامعة للمسائل الفقهية على قول مالك وأصحابه فدون أسد بن الفرات مدونته التي لقبت بالأسدية فيما بعد، ,وذهب سحنون يستدرك على أسد في أسديته، إضافة وحذفا, تبويبا وتنظيما, تدليلا وتأصيل, ا فأخرج مدونته.

 

وفي الوقت الذي كان فيه سحنون يخرج المدونة للناس بالقيروان كان عبد الملك بن حبيب يخرج كتابه للناس بالأندلس والذي وسمه بـ : (الواضحة في الفقه والسنن )، وقد قال القابسي في شأنها ( إن ابن حبيب قصد إلى بناء المذهب على معاني تأدت إليه وربما قنع ببعض الروايات على ما فيها, وإلى جانب ابن حبيب دون أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة القرطي (ت:254هـ) ديوانه الموسوم بالمستخرجة من الأسمعة والمعروفة بالعتيبة، ولقد اعتمد أهل الأندلس عليها وحازت القبول عند أعلام المالكية وهجروا الواضحة وما سواها.

 

وإلى جانب أسد بن الفرات، وسحنون اللذان يعتبران  من رجال هذا الدور في القيروان ظهر إلى جانبهما حافظ لمذهب مالك والرواة من أصحابه ألا وهو أبو عبد الله بن إبراهيم بن عبدوس (ت:260هـ) فدون المجموعة في الفقه على مذهب مالك وأصحابه قال ابن فرحون : ( عجلته المنية قبل إتمامه)، ولما تصفح ابن عبد الحكم كتاب ابن عبدوس وكتاب سحنون: قال في ابن عبدوس هذا كتاب رجل أتى بمذهب مالك على وجهه وفي كتاب ابن سحنون: هذا كتاب رجل سبح في العلم سبحا.

وإلى جانب الدور البارز الذي قام به ابن القاسم في تأليفه المدونة من قبل سحنون ظهر بمصر ابن وهب (197هـ) صاحب الجامع وأشهب بن عبد العزيز(204هـ) الذي كان هو وابن القاسم كفرسي رهان وكانت له كتب اختصرها ابن عبد الحكم في مختصره الكبير، ورايع هؤلاء ابن عبد الحكم صاحب المختصر.

 

وبفضل هذه الأعمال الموسوعية التي قام بها أولئك الرجال، اتسعت مادة المسائل واتسعت معها لغة التعبير عنها وتلاقت الأسماء المتعددة والأساليب المختلفة في ضبط الحقائق الفقهية والتعبير عن مواهيه، وبدأت كتب المسائل تترد بين الأقطار فتصل في التعبير عن المواهي وتقريبها بين قطر وقطر إذ نقل عيسى بن دينار ويحيى بن يحيى الليثي الأندلسيان عن ابن القاسم المصري كما نقل عنه أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد  القيروانيان، وقد نقل هذا الأخير أيضا عن ابن وهب وأشهب المصريان سماعهما كما نقل سحنون سماعه من علي بن زياد إلى ابن القاسم بمصر . ودخل سماع بن عبد الحكم إلى العراق عن طريق الأبهري، فكان ذلك كله زيادة في التحقيق والضبط لعبارات مالك y، وزيادة في اتساعها وإحسانا لتطبيقها على المحال المختلفة التي تحقق باختلافها مقاصد العبارات ومدلولات المصطلحات.

 

الدكتور عزالدين بن زغيبة

مجلة الضياء

دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري

دبي - الإمارات

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.