• صدور العدد الثاني من مجلة السلام للاقتصاد الإسلامي - التحميل من الموقع

إشكالية التأويل بين النص والمعنى

إشكالية التأويل بين النص والمعنى

- وجهة نطــر -

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

لعّل من الأسباب الرئيسة التي دعت العلماء قديمًا إلى الخوض في قضية التأويل ظهور بدعة الفرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وذلك عندما أخذ أرباب المذاهب وحاملو لواء الفرق يتنافسون في العصبيات المذهبيّة والسياسية؛ فبدأ شرر الخلاف يتطاير من لهيب الجدال الحادّ ليطال مصدر المعرفة الأول؛ الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، فأخذوا يوجهون العقول في فهمهما وجهات تتفق وما يبتغون؛ فتباينت طرق النظر في تفسير نصوصها وتأويلها واختلفت مسالك الناس في فهممها، وظهرت خلالها ظاهرة خطيرة هي اعتماد الموضوعات من الأخبار، وتأويل القرآن بالروايات الغربية والإسرائيليات، التي لفقها الرواة من أهل الكتاب، وجعلوا كل ذلك بيانًا لمجمل نصوصهما وتأويلاً لظاهرها، وبهذا وُجدت تحكمات بعض الفقهاء والمتكلمين، وتأويلات الغلاة والمنحرفين وغيرهم ممن يرجون لمذاهبهم، ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها حمى القرآن والسنة، فأصبحنا نرى من يؤول النصوص بما يوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح وغرضها المسوقة له، حتى لا تستقيم حجة لمذهب خصمه. وبهذا أضحى النص تابعًأ بعدما كان متبوعًا، ومحكومًأ عليه بعدما كان حاكمًا.

إنّ هذا الوصف وإن اختلفت المسميات والمصطلحات، وتغيرت الظروف والأحوال يصدق تمامًا على واقعنا الفكري.

فنحن لو تأملنا طبيعة الجدال الفكري، الذي يسود واقعنا، بنظر فاحص ممحّص، وفكر ناقد محقق، صادق غير حاقد، سابرين أغواره، ومتسللين إلى خفايا التيارات المساهمة في تشكيله وصناعته وخلفياتها، لألفينا أن ما تعتمده تلك التيارات في التدليل على صحة أفكارها، وواقعية توجهاتها، والتمكين لمذاهبها، يعود جميعه إلى استدلالاتٍ مشتركة تنبخس من أصولٍ واحدة وتراثٍ واحد . تشكّل مسألة موقع العمل من النقل وحدود النظر في الأثر محوره الأساس.

وفي  هذا المقام يكون للتأويل دور مؤثر يوصفه المسلك الذي يلجأ إليه الجميع في إخضاع المنقول لتحكمات المعقول وإلجام الآثار بلجام الأنظار. وبهذا أضحى التأويل مرتعًا لبلوغ النوايا المبنيّة، ومسلكًا لتحقيق الملاذات الفردية والجماعية غير المشروعة والمألوفة، وهو ما ولّد ردّ فعلٍ رافض لشيء اسمه التأويل، والدعوة إلى التزام الحرفية في فهم النصوص وتفسيرها، ونعني بذلك أهل الظاهر العائدين من بعيد.

ويبدو لنا أنّ الشعور بالخوف، الذي يتملك هؤلاء تجاه استخدام التأويل في التفسير والاستنباط ، لا يتعلق بالتأويل في ذاته، إنما يرجع إلى الضبابية التي تلف شروطه وضوابطه، وكذا غياب الوضوح في الأسس والقواعد التي تصنف من خلالها أنواعه وأقسامه.

والذي ينبغي قوله في هذا المقام أنّ التأويل بوصفه طريقًا من طرق التفسير والاستباط لا بدّ منه؛ لأنّ الوقوف بالنصوص عند ظواهرها ومنع تأويلها يؤدي إلى الجمود وعدم مواكبة التطور، وهو ما يتناقض والشريعة التي من أجل خصائصها العموم والديمومة.

كما أنّ الاسترسال فيه دون سببٍ وجيه ومسوّغ قوي يؤدي إلى إهدار النصوص وفتح الباب أمام أصحاب الأهواء والأغراض الفاسدة الحاقدة.

فكلا الأمرين مذمومٌ. والطريق الوسط، الذي ينبغي اتباعه، أن يُلجأ إلى التأويل عندما يوجد ما يدعو إليه من دفع تعارض ظاهري بين النصوص، أو ما يتعارض ظاهره مع المبادئ الشرعية والقواعد الكلية والمقاصد العامة، فيؤول بما يتفق وتلك المبادئ والقواعد والمقاصد؛ لأنّ هذا الوحي ليس من سماته التناقض والتخالف، ولن يكون.

الدكتور عز الدين بن زغيبة

 

إضافة تعليق جديد

This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.